موضوعات إسلامية - موضوعات مختصرة - الدرس ( 22): موعظة في رمضان
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1996-02-03
الرحمن الرحيم
رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، هذا هو الدرس الأخير قبل رمضان، لذا لا بدَّ من كلمة حول شَهر الصِّيام.
النُّقطة الأولى ؛ أنَّ هذا الشَّهر هو شَهر عِبادة، وقد ارْتقى النبي عليه الصلاة والسلام المِنبر فصعد الدرج الأولى فقال: آمين،
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ ))
[ رواه الترمذي ]
أيها الإخوة الكرام، معروضٌ عليكم عرْض خاصٌّ مِن الله عز وجل أنَّه من صامَ رمضان إيمانًا واحْتِسابًا غفر الله ما كان مِن تقدَّم من ذَنْبِهِ وما تأخَّر ووجَدْتُ حديثًا آخر في الصِّحاح يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))
[ رواه البخاري ]
معنى ذلك نحن أمام فُرْصةٍ سَنَوِيَّة مُغْرِيَّة جدًّا ؛ أنْ نفْتَحَ مع الله تعالى صفْحةً جديدة.
رمضان فيه أربعة نِقاط ارْتِكاز، رمضان شَهر الاسْتِقامة، وإيَّاك أن تظنّ أنّ الاستِقامة فقط في رمضان، لِتَعود بعده إلى العِصْيان، هذا كالذي نقضَت غزْلها من بعد قوَّة أنكاسًا، وكالناقة التي عقلها أهلها فلا تدري لا لِم عُقِلَت ولِمَ أُطْلقَت، أما إذا اسْتَقَمْتَ على أمر الله في رمضان فلِكَي تنْسَحِب هذه الاسْتِقامة على كلّ شُهور العام.
التَّفاصيل ؛ غضُّ البصَر، ومَن مَلأ عيْنَه مِن الحرام ملأهما الله مِن جَمْر جهنَّم، ومن غضَّ بصرهُ عن محارِم الله أوْرثهُ الله حلاوةً في قلبِهِ إلى يوم يلقاه، والنَّظْرة سَهم مَسْموم مِن سِهام إبليس، ولو أنَّ النبي قال: سَهمٌ فقط، ولم يقُل مسموم لاخْتَلَفَ المعنى، فالسَّهم قد يُصيبُ مكانًا في الجسَد، أما إذا كان مَسْمومًا فقد يُسَمِّمُ الجِسْم كُلَّه، فالذي يُطْلقُ بصرَهُ ويتساهَلَ في غضِّ البصَر يَجِدُ أنّ هناك حِجابًا بينه وبين الله ولو قامَ لِيُصَلِّي يجِدُ أنَّ الصلاة شَكْلِيَّة.
وكذلك ضَبْطُ الأُذُن، قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)﴾
[سورة لقمان]
لهوُ الحديث قال عنه الغِناء، وكلّ أنواع المُلْهِيات في رمضان ؛ إن أرَدْتَ أن تُتَابِعَ على ما في هذا الجِهاز الصَّغير، لن تسْتطيعَ أن تُحَقِّق الهَدَف مِن هذا الشَّهر العظيم، فهذا الشَّهر يحتاج إلى ضَبط الأُذُن واللِّسان، فالغيبة والنَّميمة والكذب وقول الزُّور والمُحاكاة والاسْتِهزاء هذا كلُّه يحتاج إلى ضَبط.
وكذا ضَبْطُ اليَدِ، فلا تأكل إلا الحلال، ولا تُنفِقَ إلا الحلال، قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ))
[ رواه ابن ماجه ]
فلا معنى أن تَدَع كأس الماس والطَّعام إن كان بالإمكان أن تقْتَرِفَ المعاصي والآثام، تشْعُر بِشيء مضْحك، وتناقض مُريع، وتناقض غير مُحْتمل ؛ تتْرُك الطَّعام والشَّراب اللَّذين أباحهما الله لك في غير شَهر رمضان وتفعل ما حرَّم الله، لذلك كأنَّ الله أراد أن يجْعل مِن ترْك المُباحات طريقًا لِتَرْك المَنْهِيَّات، فرمضان يعني الاستقامة، ولا يقبل حلاًّ آخر ورمضان يعني الصلاة، هذه الاستقامة، وهذا الضّبط، وهذا الذِّكْر وغضُّ البصر وضَبط اللِّسان، والإعراض عن سَماع كُلِّ شيءٍ لا يُرضي الله، هذا مِن أجل أن يَحْمِلَكَ على الاتِّصال بالله عز وجل، متى الاتِّصال بالله تعالى ؟ في التراويح، فالإنسان كما قلتُ في درْسٍ سابقٍ يتوجَّه من المنطقة أ إلى المنطقة ب ليشتري كيلو غرام من الفول من أجل أنَّ الفول طيِّب، فدينُكَ أعظم من أن تختار لنَفسِكَ مسجدًا تُصلِّي فيه التَّراويح، وعن إمام تسرُّ بِقِراءَتِهِ، وعن إمام يقرأ في الليلة الواحدة جزء ؛ لأنّ الإمام الغزالي يقول: أعلى درجة من الثَّواب في تِلاوة القرآن أن تقرأهُ في المسجد، وفي صلاة وأنت واقف، أو أن تسْتَمِعَ إليه فهذه أعلى درجة من الخُشوع، فهذا مُتاحٌ في التراويح، لذلك لا بدَّ أن تُبَرمِجَ حياتَكَ لا على أساس اللِّقاءات، والولائِم، والسَّهرات والنَّدوات فرمضان شَهر العِبادة، يجب أن تُوَطِّن نفْسَكَ على حُضور مجالس العِلم وصلاة التَّراويح، وصلاة الفجر في المسجد، وكأنّ الله تعالى حينما يريدُ منك أن تُصلِّي صلاة الفجر في المسجد فَلِكَي تنسَحِبَ هذه الصلاة على شهور السَّنة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَنَسِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَيُدْرِكَهُ فَيَكُبَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ))
[ رواه مسلم ]
رمضان يعني الاستقامة، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا تَحْقِرُونَ ))
[ رواه أحمد ]
قد يقول أحد من المسلمين أنا لم أقْتُل، ولم أزْنِ ولم أسْرق، ولم أشرب الخمر، فنقول له: هذا شيء كبير، ولكن هذه كبائر، ومُدَمِّرة، أما ما يقطَعُكَ عن الله هو ما تَحْقِرُهُ مِن الأعمال لذلك ضَبط اللِّسان، وغضُّ البصر، والإعراض عن الملْهِيات والأفلام هذه كُلُّها حِجاب بينك وبين الواحِدِ الدَّيان، فرمضان إذًا يعني الاسْتِقامة، ويعني الصلاة، والاتِّصال الحقيقي بالله، قال تعالى:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
[سورة طه]
وقال تعالى:
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)﴾
[سورة العلق]
والصلاة نور وطهور وحبور، وهي مِعراج المؤمن، وهي الميزان ومن وفَّى اسْتَوفى.
الشيء الثالث ؛ رمضان يعني تِلاوَة القرآن، فهذا القرآن الكريم الذي هو غِنًى لا فقْر بعده، ولا غِنًى دونه، وهو ربيع القلوب، ولك أن تقرأهُ قراءَتين ؛ قِراءة تَعَبُّد كما تقرؤونهُ جميعًا، وقراءة تدبُّر وهو أن تقف عند الأمر والنَّهي، والحلال والحرام، وأن تقف عند القصص التي تؤثِّر في النَّفس، وأخبار التاريخ.
مَن صلَّى الفجْر في جماعة واسْتَطاع أن يجْلسَ حتَّى تطْلُعَ الشَّمس فينتَظِر عشرين دقيقة وبعدها يُصَلِّي صلاة الضُّحى، فهذه تعدل حجَّة وعمرةً تامَّة، فأنت مُتاحٌ لك في رمضان أن تكسِبَ ثلاثين حجَّة وثلاثين عمرة ! ولك أن تذكر الله صباح مساء، وأن تسْتغفِر، المُهِمّ أن تجعل من رمضان شَهر اسْتِقامة، وشَهر اتِّصال، وشَهر قرآن، وشَهر إحسان فهذه أربع كلماتٍ يجبُ ان تبقى في أذْهاننا ؛ رمضان الاسْتِقامة ورمضان الاتِّصال ورمضان القرآن، ورمضان الإحسان، وقد كان عليه الصلاة والسلام جوادًا وكان أجْوَدُ ما يكون في رمضان، اُكتُب قائِمَة لإخوانِكَ المُحتاجين وعن قضاياهم، وشؤونهم، ودُلَّهم على الله وتفقَّد أحوالهم، ووقِّر كبارهم، كلُّ هذا مِن اجل أن نُعْتَقَ مِن الله، لذا أيُّها الإخوة نحن في فرْصَة والماضي كلُّه يُغْفر، فإذا تاب الله توبةً نصوحة أنْى الله حافِظيْه والملائكة وبِقاع الأرض كلَّها.
نرجو الله تعالى أن نُشَمِّر، لا بدَّ مِن أن تبدأ أوَّل رمضان إلى آخره بالطاعة، والشَّهر شَهْر قُرْب، فالعِبرة أن تذوق طَعْم القرب من الله تعالى، فإذا صام الإنسان رمضان إيمانًا واحْتِسابًا غفر الله ما تقدَّم من ذنبه ونحن دروسنا معروفة لديكم في هذا الشَّهر.
و
رب العالمين