هذه دعوتنـــا
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وعبده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد..
فإن الدعوة إلى الله مهمة عظمى، ومبلغ أسمى، وخير ما يدخره العبد بين يدي الله يوم لقائه..
ولله المنة الخالصة على من وُفِّق إليها وكان من جنوده، فعمل في سبيل ذلك دون كلل ولا ملل، واجتهد في إصلاح الناس، وبثِّ ما شأنه أن يقودهم إلى كل خير.
ومنتهى التوفيق والسداد أن تكون هذه الدعوة على منهاج النبوة، دون ميل ولا انحراف، دعوة وسط، لا وكس ولا شطط: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}.
فدعوة الناس إلى السنة الغراء، والمحجة الواضحة البيضاء، هي الجهاد الممدوح صاحبه، الذي يبذل نفسه ووقته وماله وجهده من أجل إرساء قواعد الدعوة إلى الخير.
ومن أراد نصرة الدعوة وتوضيحها وبيانها وإيصالها إلى الناس، فلا بد أن يتحلى بأعظم سلاح يجاهد به الأعداء، ويندحر به الخصوم (وهو العلم).
ومن لم يكن له علمٌ يعينه انقطع به الدرب، وفاته الركب، وخارت قواه، وذبلت نضارته، ويبست أوراقه.
فإذا به يحتاج إلى من يرفعه بعد أن كان يرى في نفسه أنه سيفعل ما لم تفعله القبائل، ويأت بما لم تأت به الأوائل.
وإذا به يرجع عامياً، يقضي وقته بالكلام وسفاسف الأوهام.
فمن أراد نصرة الدعوة إلى السنة والعقيدة الصحيحة فلابد أن يتحلى بالعلم، فإذا تحلى به فقد أمسك بيده السلاح، الذي يدفع به الشبهة ويدحر به الهوى، وإذ به قد سلك طريق المجاهدين، الذين يذبون عن الدين، ويوضحون للناس ما التبس عليهم، وعكّر صفو عقائدهم.
وهذا أعظم الجهاد، وهو أفضل من ضرب السيوف، وطعن الرماح، والقصف بأشنع الأسلحة، قال ابن القيم رحمه الله: "والجهاد بالحجة واللسان، مقدمٌ على الجهاد بالسيف والسنان"، وقال: "فالجهاد بالعلم والحجة، جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق، ومن مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق" اهـ.
فيا معاشر المسلمين:
إن الأمة تحتاج لطالب العلم الذي يبصرها في دينها أكثر من حاجتها إلى شيء آخر، لأن بالعلم يعبد المسلم ربه على بصيرة، ويعرف سبيل السعادة والنجاة، فينجو من غياهب الظلمات، ويفر من مواقع الفتن.
ولو نظرنا في تاريخ الأمة وأمجادها، نجد أن من بلغ بها السؤدد هم العلماء الربانيون، الذين أناروا طريق السالكين، وأرشدوا كل تائه، وهدوا كل حائر.
ومن عرف عظم الأجر في طلب العلم، ومنازل أهل العلم ومكانتهم، وحاجة الأمة إلى طالب العلم، جعل ذلك هدفاً لا يألوا جهداً في سبيل الوصول إليه.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب، قلت لشاب من الأنصار: يا فلان: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنتعلم منهم فإنهم كثير، فقال: العجب لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الأرض من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: فتركت ذلك، وأقبلت على المسألة، وتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلاً، فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي، حتى يخرج، فإذا خرج، قال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مالَك؟ فأقول: بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: فهلا بعثت إليّ حتى آتيك، فأقول: أنا أحق أن آتيك.
فكان الرجل بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتاج الناس إليّ، فيقول: كنتَ أعقلَ مني".
فالعلم الشرعي سبب إلى الدين، ومنبهة للرجل، ومؤنس في الوحشة، وصاحب في الغربة، ووصلة في المجالس، وذريعة في طلب الحاجة، ورفعة لأهله.
قال الحجاج لخالد بن صفوان: من سيدُ أهل البصرة؟ فقال له: الحسن البصري، قال: وكيف ذاك وهو مولى؟!، قال: احتاج الناس إليه في دينهم، واستغنى عنهم في دنياهم، وما رأيت أحداً من أشراف البصرة إلا وهو يطلب الوصول في حلقته إليه، ليستمع قوله، ويكتب علمه، قال الحجاج: هذا والله السؤدد.
فالعلماء هم سراج الأمة الذين يجاهدون أهل الأهواء، ويذبون عن الدين، ويحمون بيضته، ومن لم يتحصن بالعلم، وتصدى لدعوة الناس أتى بالعجائب، وثغر ثغرة في الإسلام، فأُتي من قبله.
ومن أجل ذلك فلا ينبغي أن يسلّم زمام الأمة للمتعالمين، الذين لم يكتسبوا علماً ولا أدباً، فيقودون الأمة إلى الهاوية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا".
وعلى طالب العلم أن يصحح نيته في طلبه للعلم، ويكون مخلصاً في ذلك لله وحده، لا يريد به شيئاً من الدنيا، أو طمعاً في تصدرٍ أو منصبٍ أو جاهٍ، وأن يكون هدفه نشر الدين، ونصرة سنة سيد المرسلين، ويفرح لذلك، سواء كان ذلك على يده أو على يد غيره، وهذا من علامات الإخلاص، وليحذر أن يطلب العلم الشرعي وهو يريد به حطاماً من حطام الدنيا الزائل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"، يعني: ريحها.
وقيل للإمام أحمد: "ما ينوي طالب العلم؟، قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن الناس".
كما أن الواجب على طالب العلم أن يعرف أولويات الدعوة، فيبدأ بالأهم ثم المهم، ويتجنب ما لا يفيده، وليس من ضروريات دعوته، ولا ينشغل بالسفاسف التي لم يأت بها الشرع، بل هي من اختلاف أهل الأهواء، فينشغل عن الهدف الأسمى.
وأهم المهمات التي يجب على طالب العلم أن يبدأ بها ويقدمها على ما سواها، أن يدعوَ إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، لأن هذا هو سبيل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فما بعث الله نبياً من أنبيائه إلا من أجل هذه الغاية، لعظم قدرها وأهمية تحقيقها، وما بُعث نبي إلى قومه إلا ونادى بهم: {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره}، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.
وما سُلّ السيف، وفرض الجهاد، وسالت الدماء، وقام سوق الجنة والنار، إلا من أجل تحقيق هذه الغاية.
وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة، وينادي بهم في كل اجتماع: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
فإذا عرف طالب الحق هذا المطلب، نجح وأفلح، وسلك الطريق التي لا يضل سالكها ولا يزيغ.
على أنه لا بد أن يُبيَّن للناس ـ ولاسيما في هذه العصور لانتشار الجهل ـ حقيقة التوحيد وماهيته، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، بأن معناها أنه لا معبود بحق إلا الله، فلا تُصرف عبادة إلا له سبحانه، ومن صرف نوعاً من أنواع العبادة، من خوف أو رجاء، أو توكل، أو رغبة، أو رهبة، أو ذبح، أو نذر ونحو ذلك، لغير الله فقد أشرك بالله واستحق الخلود في النار، قال تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}، فلا بد من بيان هذا الهدف أتم بيان وأوضحه، خصوصاً وأن كثيراً من دعاة الضلالة بدأوا يفسرون شهادة التوحيد بغير معناها المراد، فحرفوا الناس عن جادة الحق وسبيل الهدى.
وعلى طالب العلم أن يتأدب بأدب الإسلام الذي أرشدت إليه نصوص الكتاب والسنة، وأن يتذوق محاسن الأخلاق التي تكون مفتاحاً إلى قلوب الخلق ووسيلة لاجتذابهم إلى المنهج الحق، لا سيما في وقت نفر كثير من الناس من الالتزام بسبب الشبهات المضلة والشهوات المردية، التي تدعوهم في كل حين (هلم إليّ).
ومن نظر في سيرة المصطفى والنبي المجتبى رأى في ذلك أعظم دليل، فقد كان معروفاً بالصدق ومكارم الأخلاق قبل أن يُبعث، ولذلك لما بُعث لم يطعنوا في أخلاقه وسجاياه، بل سرعان ما فتح الله له قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً.
ولذلك لما جاءه الملك بالوحي وضمّه وقال له اقرأ رجع إلى خديجة وهو خائف، وقال لها: "زملوني..زملوني"، فدثروه حتى ذهب منه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر، "لقد خشيت على نفسي". فقالت: "كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق".
فوصفته رضي الله عنها بمكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم.
وكان يسميه أهل الجاهلية الصادق الأمين، ولما جمعهم للدعوة، قالوا: ما جربنا عليك الكذب، (ومن ردّ دعوته فلم يردّها لأجل طعن في أخلاقه، بل عتوا واستكباراً).
فالأخلاق والآداب مفتاح لتبيلغ الدعوة إلى الناس، فيكون لفظُ المرء حسناً وفعله حسناً حسب الإمكان، ويجاهد نفسه في هذا الباب حق الجهاد محتسباً الأجر ومستشعراً الغنيمة، فلعلك بأخلاقك تقيم أخلاق الزوجة والأبناء، أو تدعو رجلاً بمعروف تسديه إليه فيهتدي، فيكون لك من وراء ذلك ـ بفضل الله ورحمته ـ ما لم يخطر لك على بال، وربما دعا المرء بفعله أكثر من قوله، قال عمر رضي الله عنه: "تعلموا العلم وعلموه الناس وتعلموا له الوقار والسكينة وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علمتوه ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم".
وقال مالك: "إن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقارٌ وسكينة وخشية وأن يكون متبعاً لآثار من مضى قبله".
ولا يعني كون المرء خلوقاً أن يسكت عن إنكار المنكر، ويقر الباطل حتى يقال عنه خلوق، فإنه لا تضاد بين إنكار المنكر والتمسك بالآداب والأخلاق، فيكون أمره بالمعروف بمعروف، وإنكاره للمنكر بغير منكر، فلا يجفو ولا يغلو.
فإذا كان متأدبا بطرحه، قوياً في حجته، فما يضره بعد ذلك كلام من تكلم وتشويه من شوّه، وليكن همه رضا الله وحده لا شريك له ولا معبود سواه، فلا ينظر إلى فلان أو إلى علان، ولكل حال ما يقتضيه، والموفق من وفقه الله لاتباع خير الورى وصفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر بكل أدب وحكمة ولم يتقبل منه، فليحمد الله على ما وفق إليه من الخير، حين ضلّ عنه كثير.
قال الحسن البصري: السني يعرض الحكمة فإن قُبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله، إن قُبلت حمد الله لهداية الخلق على يديه، وإن ردت حمد الله أن وفقه الله للحق الذي لم يوفّق له من دعاه إليه.
وينبغي له بين ذلك أن يتحسس نعمة الله تعالى أن هداه، وأن يرحم حال من لم يوفّق إلى الخير، فإذا به يتأرجح بين شبهات البدع، أو ظلمات الآثام، مع القيام بأمر الله فيه، وحمد الله الذي عافاه من حاله، وليستحضر دائماً قوله تعالى: {كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم}، وليحذر أن يأخذه الكبر والاغترار وكأنه معصوم، فيحتقر العصاة، وكأنه كتبت له النجاة بين يدي الله، وعليه بلزوم التواضع وحمد الله على المنة، يقول ابن القيم:
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما بالحق في ذا الخلق ناظرتان
فانظر بعين الحكم وارحمهم بها إذ لا تردُّ مشيئة الديان
وانظر بعين الأمر واحملهم على أحكامه.. فهما إذا نظران
واجعل لوجهك مقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن
وعلى طالب العلم إن أراد لدعوته المضيّ قدماً، وقطف ثمرة ما غرسه من الخير والنبت المبارك، أن يكون رحيماً بمن سار معه على طريق التمسك بالآثار، والعمل بهدي الصادق المختار صلى الله عليه وسلم، فلا يكون فظاً غليظاً فينفر منه القريب قبل البعيد، وليأخذ بما أدّب الله سبحانه به نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون}. فأوصاه بالتواضع والرحمة لمن سار على طريقه، وأحق من عمل بهذا الهدي الواضح، من ادعى اتباعه صلى الله عليه وسلم.
إن تألّف القلوب أعظم نعمة، ألم ترَ إلى امتنان الله سبحانه على نبيه أن ألّف القلوب عليه، قال تعالى: {هو الذي أيدك بنصرك وبالمؤمنين * وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم}.
وعلى من تأمل تجربة إخوانه بين أهل الشبهات والشهوات، رأف بحالهم، ولم يزد غربتهم.
فلربما رأيت في الظاهر شخصاً قائماً بأمر الله في لباسه ومظهره، وهو من الداخل منهارٌ يدافع الفتن وهي إليه أسرع، فتنة في الشارع، فتنة في المنزل، ضغط نفسي، هموم متراكمة، يحتاج إلى يد حانية تساعده على المسير حتى يبلغ الهدف، فيأتيه الفظّ الغليظ فيسيء معاملته فيُعين الشيطان عليه.
فالرحمة الرحمة.. يا من تريدون نصرة الخير، وبثّ الاعتقاد الصحيح، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين البشرية، قال سفيان الثوري رحمه الله: "استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء".
وعلى طالب العلم أن يتجنب كل خلق دنيء، وأعظمها الحسد، الذي يفسد القلوب ويوغر الصدور، ويشتت الشمل، ويبث الفرقة.
فإذا رأى أحد إخوانه وقد فتح الله على يديه ـ فليفرح لذلك ـ لأن الهدف واحد، وليستشعر وكأنه هو من فتح الله على يديه.
أما إن حسده فدعاه ذلك إلى تنقصه، وتنفير الناس منه، وتزوير الحقائق، فحينئذٍ يعود الجهد إلى شتات، قال تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً}.
فإذا أيقن بأنَّ فَتْحَ اللهِ على العبد منّة من الله وفضلاً، طفئت نار الحسد التي تتقدُ في صدره، وما قاد الناس إلى حب الرئاسة والظهور إلا الحسد، وامتلاء القلب من الغل.
فكم من الناس يدفعه الحسد إلى حب الترأس، فيريد أن يكون رأساً يرجع الناس إليه، يدفعه لذلك الحسد واحتقار الناس، حتى لربما فتح أبواب البدع والأقوال الشاذّة، ودفعه ذلك لترك طلب العلم مخافة أن يقال: فلان الذي يَعُدُّه الناس شيخاً يطلب العلم، فيستمر في جهله ويستكبر أن يسأل، فإذا به بعد فترة وقد تراجع وعلم تلبيس الشيطان عليه، أو فتح باب الشبهات على الناس.
قال أبو العتاهية:
أأخيّ من عشق الرئاسة خفتُ أنْ يطغى ويحدث بدعة وضلالا
وقال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير.
ولذلك لو نظرت إلى من فتح الله على يديهم وهدى لهم قلوب الناس، لرأيتهم أكثر الناس تواضعاً وطهارة للقلوب من الحسد والغل والضغينة، ولم يمنعهم ما بلغوه من المنزلة، وامتلاء صدورهم من العلم أن يتواضعوا، فوفقهم الله بسبب ذلك إلى أنْ سخّر لهم الخلق فانتفعوا بهم، يقول عبد العزيز بن حازم: " سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم، كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يزْهُ عليه، (أي: لم يتكبر عليه)، حتى جاء هذا الزمان، فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه، فهلك الناس).
وعليه أن يجتنب الكذب ونقل الكلام بين الناس على غير وجه التثبّت، فإنه من الكذب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".
فالكذب من أعظم الآثام، ومن مساوئ الأخلاق، وقد كان أهل الجاهلية يترفعون عنه، حتى قال أبو سفيان ـ وقد كان مشركاً ـ: "كنت امرءاً سيداً أتكرم عن الكذب".
وليحذر إن أبغض شخصاً أن يفتري عليه، أو ينقل عنه ما يعلمُ أنه بريء منه لأنه يبغضه.
فمن أراد نجاح دعوته فعليه بالصدق، فإن الله يفتح عليه أبواب النعم والكرامات، وأما الكاذب فإنه وإن طال به الزمن فسيفتضح يوماً ما، وعذاب الله أخزى.
ومثل هذا لا يؤخذ عنه العلم لأن من لم يُفدْه ما ادعاه من الطلب، ولم يورِّثْه خشية وإنابة فلا خير فيه، قال مالك رحمه الله: "لا يؤخذ العلم عن رجل معروف بالكذب في أحاديث الناس، وإن كان لا يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم".
من أجل ذلك فإنك تجد من تميز بالصدق قد جعل الله له إجلالاً ومهابة حتى في قلوب مخالفيه، عكس الكذاب الذي أذلّه الله بذنبه، وسرعان ما يبوء بالخزي والاندحار.
قال ابن القيم رحمه الله: "والكذب له تأثير عظيم في سواد الوجه، ويكسوه برقعاً من المقت يراه كل صادق، فسيما الكاذب في وجهه يُنادى عليه لمن له عينان، والصادق يرزقه الله مهابة وجلالة، فمن رآه هابه وأحبه، والكاذب يرزقه الله إهانة ومقتاً، فمن رآه مقته واحتقره".
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الدعاة إلى توحيد الله بالعبادة، وإفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
25