جاء في القرآن الكريم بعد الحديث عن مراحل خلق الإنسان ونشأته قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون:14). وفي دعوة النبي إلياس لقومه نقرأ قوله تعالى: {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين} (الصافات:125).
ولفظ {أحسن} في العربية على وزن (أفعل)، وهذه الصيغة من صيغ التفضيل، وهي تفيد تفضيل شيء على شيء .
وبحسب هذه الصيغة ودلالاتها، فقد يفهم بعض الناس أن لفظ {أحسن} يقتضي وجود خالق غير الله؛ لأن قولنا: هذا أحسن من هذا، يقتضي وجود حسن وأحسن، أي: وجود شيئين أحدهما أحسن من الآخر. وهذا يتنافى مع ما هو مقرر في عقيدة الإسلام، التي تقوم على إفراد الله بالخلق، والإيجاد من العدم. فكيف يكون وجه التوفيق بين هذا اللفظ القرآني، وما هو مقرر في عقيدة الإسلام؟
إن معاجم العربية تقرر تحت مادة (خلق) أن هذه المادة تطلق على معنيين أساسيين؛ الأول: تطلق بمعنى الخلق والإبداع والإيجاد من العدم، وهذا المعنى يختص به الله سبحانه، وليس هو من صفات الإنسان؛ وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} (الأعراف:54) فالله سبحانه هو الخالق لكل ما في الوجود، وهو الموجد من العدم، لا يشاركه أحد من الخلق في هذا الصفة.
وتطلق مادة (خلق) في اللغة على معنى التقدير والصنع؛ ولفظ (الخلق) بحسب هذا المعنى قد يوصف به غير الله تعالى؛ من ذلك قول العرب: رجل خالق، أي: صانع؛ وقالوا: خلق النعل، إذا قدرها وسواها بالقياس، وعلى هذا جاء كلام العرب.
قال زهير بن أبي سلمى يمدح رجلاً:
ولأَنت تفري ما خلقتَ وبعض القوم يخلق، ثم لا يفري
يقول زهير في مدحه ذلك الرجل: إنك إذا بدا لك أن تفعل أمرًا فعلته، لا يمنعك من ذلك مانع؛ لأنك صاحب همة وعزيمة؛ في حين أن غيرك إذا بدا له أن يفعل شيئًا ما، فهو لا يقدر على فعل شيء؛ لأنه ضعيف الهمة والإرادة.
وقال الكميت يصف وعاء ماء:
لم يَجشَمِ الخالِقاتُ فِريَتَها ولم يَغِض مِن نِطَافِها السَرِبُ
والمقصود بـ (الخالقات) في البيت: الصانعات لأوعية الماء.
وجاء في حديث أخت أمية بن أَبي الصلت: فدخل علي وأنا أخلق أديماً، أي: أقيس الجلد لأقصه بحسب الطلب والحاجة.
وقال الحجاج: ما خلقت إلا فريت، ولا وعدت إلا وفيت. أي: إذا قدرت أمرًا أمضيته وأنفذته.
فهذه الشواهد تفيد بأن لفظ (الخلق) يأتي في اللغة بمعنى التقدير والصنع.
وعلى معنى التقدير والصنع جاء قول عيسى عليه السلام: {أني أخلق لكم من الطين} (آل عمران:49) فالخلق منه: على معنى التصوير والتقدير، وليس معناه أنه يخلق من العدم. فهو كان يصور من الطين شكل طير، ثم ينفخ فيه فيطير بإذن الله عز وجل.
وعلى هذا المعنى الثاني لكلمة (الخلق) ينبغي أن نفهم قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} وقوله: {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين} أي: الصانعين.
ثم إن كتب العربية تخبرنا أن صيغة التفضيل (أفعل) قد تأتي في كلام العرب، ولا يراد بها معنى التفضيل، ويعبرون عن هذا بقولهم: وصيغة (أفعل) ليست على بابها، وكتب اللغة غنية بالأمثلة على ذلك.
جاء في كتاب (فقه اللغة وسر العربية) لـ الثعالبي فصل بعنوان: فصل في (أفعل) لا يراد به التفضيل، واستشهد لذلك بقول الفرزدق:
إن الذي رفع السماء بنى لنا بيتًا دعائمه أعز وأطول
فاللفظان (أعز) و(أطول) في البيت ليسا على معنى التفضيل، وإن جاءا على صيغته، ومعنى البيت: إن الله الذي رفع السماء بغير عمد، قد هيأ لنا بيتًا، دعائمه عزيزة وطويلة.
ومنه قول قائلهم:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
والمعنى: لقد تمنى رجال موتي، فإن يكن ذلك، فلست الوحيد الذي يأتيه الموت؛ فجاء الشاعر بلفظ (أوحد) على صيغة (أفعل)، من غير أن يريد به التفضيل.
وسواء قلنا: إن الخلق على معنيين، أو إن التفضيل لا يراد به في الآية حقيقة التفضيل، فإن معنى قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} صحيح ومستقيم.