موضوعات إسلامية - موضوعات مختصرة - الدرس ( 33): الإخلاص.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2000-09-24
الرحمن الرحيم
الرحمن الرحيم،
رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد؛ الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة، إتماماً لموضوع البارحة من أن حقيقة الدين ينبغي أن نعرفها بشكل دقيق كي نسعد بهذا الدين؛ اذكر لكم مثالاً ذكرته سابقاً: النشاط التجاري فيه آلاف الفروع؛ مثلاٍ شراء مكتب، شراء مستودعات، مراسلات، مندوبو مبيعات، تحصيل ديون، دعاية... مئات النشاطات، محاسبة إلخ.... كل هذا النشاط يهدف إلى شيء واحد هو الربح، فإن لم يكن هناك ربح لا معنى لكل هذه النشاطات، إطلاقاً. الآن الدين؛ حضور دروس علم، حضور خطب جمعة، مطالعات دينية، أذكار صباحية، إطعام المساكين، العناية بالأيتام، إكرام الأرامل، إسعاف المحتاجين، كل هذه النشاطات إن لم توصلك إلى الله؛ لا معنى لها، هناك دنيا ضمن الدين، دنيا؛ الإمام الجليل عبد الله بن المبارك، دخل إلى المسجد فرأى جموعاً بأعداد كبيرة؛ قال: يارب لا تحجبني عنك بهم، و لا تحجبهم عنك بي.
الأصل هو الله عز وجل، الأصل الإخلاص إلى الله،الأصل مناجاة الله، الأصل أن تسعد بالله، فكل النشاط الديني إن لم يوصلك على الله عز وجل... لكن ما الذي يحصل؟ إنسان له زي ديني مثلاً، له تمتمات، سلوك قريب من سلوك الأولياء ـ وهو ليس كذلك ـ الناس يصدقونه، يقول عليه الصلاة والسلام:
يؤتى برجال يوم القيامة، لهم أعمال كجبال تهامة، يجعلها الله هباء منثوراًً.
قالوا: يا رسول الله صفهم لنا ـ أي جلهم لنا ـ قال إنهم يصلون كما تصلون، و يأخذون من الليل كما تأخذون وَلَكِنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انتهكوها.
عَنْ الحديث الصحيح:
((عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))
[صحيح عن ثوبان بن بجدد]
إذاً الإنسان ممكن بذكائه أن يقنع الناس أنه صاحب دين، وهو ليس كذلك؛ معك كيلو معدن، بذكاء بارع أقنعت الناس أنه ذهب فصدقوك؛ لكنك الخاسر الأول، لو كان معك كيلو ذهب حقيقة، وظن الناس أنه معدن خسيس؛ أنت الرابح الأول؛ علاقتك معك، مع نفسك، سعادتك منك، شقاؤك منك:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾
[ النساء:142]
يعني أنا أقول لكم أيها الأخوة ـ توفيراً للوقت ـ تعاهد قلبك، انتبه، نواياك، عباداتك، أحوالك مع الله، اتصالك بالله، فهمك للقرآن، إخلاصك في العمل، هذا كله أساسي في الدين، أما هناك نشاطات أخرى فيها وجاهة، وفيها مكانة، وفيها سمعة، والآن في سلوك ـ سبحان الله ـ المسلمون يكيلون لبعضهم البعض المديح الذي لا يعقل؛ سيدنا أنت أكبر ولي، وأنت أكبر عالم، لا نكون خدام لك؛ كله كلام فارغ.
فيا أيها الأخوة؛ نريد إن نكسب أعمارنا، و أن نكسب الوقت، وأن نعلم أن الله عز وجل:
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
[غافر:19]
<< ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام >>
((والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكاف في مسجدي هذا ))
الإسلام عملي؛ رأى النبي لا يعمل لكنه يصلي طوال الوقت، قال: من يطعمك؟ قال: أخي. قال: أخوك أعبد منك.
الإسلام عمل، الإسلام كسب رزق، الإسلام يد عليا، الإسلام كرامة، الإسلام رأس مرفوع، الإسلام إيجابية، لا سلبية، الإسلام:
((' المسلم الذي يُخالط الناس، ويَصْبِرُ على أَذاهم خير من الذي لا يخالط الناس، ولا يَصْبِرُ على أذاهم '))
[ أخرجه الترمذي عن يحيى بن وثاب]
يعني هنا نفهم العبادة فهماً حقيقياً، أنك إذا آمنت بالله إيماناً حقيقياً، وعملت للدار الآخرة؛ كل أعمالك و حركاتك وسكناتك التي وفق منهج الله عبادة؛ عاداتك عبادات، بينما المنافق عاداته سيئات؛ لأنه يرائي بها؛ قال تعالى:
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقَِّ﴾
[الحديد:16]
يعني الم يأن الأوان أن تتعامل مع الواحد الديان، معاملة مباشرة؛ أن تصدقه، أن تخلص له، أن تطيعه، أن تخدم عباده، ألا تغش إنساناً ولو كان غير مسلم، ألا تأخذ ما ليس لك، هذا هو الدين؛ الدين معاملات، العبادات أساسية لكنها لا تقبل إلا إن صحت المعاملات. فيا أيها الأخوة الكرام،يعني مشكلة المسلمين اليوم؛ فهموا الدين فهماً شعائرياً، شعائرياً، يعني مثلاً قي نساء يعملن في الفن، و يرتكبن أقبح المعاصي و الآثام، ويصلين: يارب توفقني. كيف الناس فصلوا الدين عن السلوك فصلوا الدين؛ الدين أن تصلي فقط، أما ماذا تعمل، كيف تكسب رزقك، حلالاً أو حراماً، بطاعة، بمعصية، بكذب باحتيال، بدجل...؛ العبرة أن تأخذ المال و أن تصلي، يعني تقريباً الدين ـ ليس من باب المبالغة ـ خمسمئة ألف بند، بقي خمسمئة ـ العبادات الشعائرية ـ لذلك ترى المسلمين كثر لكن الألف منهم كأف، أف...ما قيمته؟ الألف..و كان أصحاب النبي الواحد منهم كألف؛ هل تصدقون إن سيدنا خالد رضي الله عنه كان في الفتوح وفي غزوة خطيرة جداً ـ وأظنها نهاوند ـ أرسل لسيدنا الصديق وهو أبي بكر الصديق يطلب المدد، يطلب خمسين ألف مقاتل، بعد حين جاء المدد؛ جاء رجل واحد اسمه القعقاع ومعه الكتاب، قال له: أين المدد!؟ قال له: أنا المدد؟. أمسك كتاباً؛ قرأه:
<< من عبد الله إلى سيف الله خالد؛ احمد الله إليك، يا خالد، لا تعجبن أني أرسلت لك واحداً؛ والذي بعث محمداً بالحق؛ إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم.>>
واحد! طالب خمسين ألف، المؤمن شخصية كبيرة جداً، المؤمن موفق، طاقاته مفتوحة على السماء، مؤيد، منصور، لكن:
>> كن لي كما أريد، أكن لك كم تريد، كن لي كما أريد و لا تعلمني بما يصلحك<<
ورد في بعض الآثار القدسية أن الله عز وجل يقول:
(عبدي خلقت لك السموات والأرض ولم أعي بخلقهن؛ أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، لي عليك فريضة و لك علي رزق، فإذا خالفتني قي فريضتي؛ لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي؛ إن لم ترض بما قسمته لك؛ فلأسلطن عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا يناله منها إلا ما قسمته لك ـ و لا أبالي ـ وكنت عندي مذموماً، أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد.)
و يقول أيضاً في بعض الآثار القدسية:
((قال له سيدنا موسى: يارب أي عبادك أحب إليك،حتى أحبه بحبك،قال:أحب عبادي إلي، تقي القلب، نقي اليدين،لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال:يارب، إنك تعلم أني أحبك، وأحب من يحبك،فكيف أحببك إلى خلقك، قال:ذكرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائ))
ورد أيضاً في الأثر القدسي:
(( ليس كل مصلٍ يصلي؛ إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي. وعزتي وجلالي؛ إن نور وجهه أضوأ عندي من نور الشمس؛ على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه، يسألني فأعطيه، يقسم علي فأبره، أكلأه بقربي، و أستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس، لا يمس ثمرها، ولا يتغير حالها))
يعني إنك إن عرفت الله؛ عرفت كل شيء، إنك إن وصلت إلى الله؛ وصلت إلى كل شيء، ما فاتك شيء:
(ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء)
لذلك كان بعضهم يقول:
>>يارب ماذا فقد من وجدك، و ماذا وجد من فقدك.<<
مرة ـ يعني ـ واحد استكثر على كلية إسلامية أن تحدث درجة دكتوراه؛ فقال: أنتم نبيكم أمي لا تحتاجون لمثل هذه الشهادة. فأجابه عميد الكلية: ولكنه يوحى إليه. يعني أكبر عالم علمه أرضي أما النبي من علمه؟ علمه شديد القوى. فنحن معنا الوحي، الوحي لا يخطئ، أثمن شيء معنا ـ وحي السماء ـ معنا منهج لا يمكن أن يقع الإنسان في خطأ لو طبقه، منهج متوازن، متكامل، واقعي، روحي، دنيوي، أخروي، أخلاقي، هكذا منهجنا، فقال تعالى:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
[النحل: 43]
لا تبحث عن حل لمشكلتك إلا ضمن الوحي، من هم أهل الذكر؟ الذين يعرفون الوحي؛ يعني يفهمون القرآن، ويفهمون بيان النبي للقرآن، الله عز وجل أمر النبي أن يبين للناس ما نزل إليهم، فيمكن أن تكون كل أحاديث رسول الله بيان للقرآن الكريم؛ النبي ما ترك تفسيراً؛ كل أحاديثه تفسير لكتاب الله، نحن معنا وحي، في كليات، ومعنا سنة قولية وعملية، وإقرارية، ووصفية فيها تفصيلات:
ما إن تمسكتم بهما ـ الكتاب والسنة ـ فلن تضلوا بعدي أبداً.
عن الحديث الحسن:
((أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: تَركْتُ فيكُمْ أَمْرَيْنِ لنْ تَضِلُّوا ما تَمسَّكْتُمْ بهما: كتابَ الله، وسنّة رسولِهِ))
[أَخرجه الموطأ عن مالك بن أنس ]
فيا أبها الأخوة؛ حتى الواحد لا تأخذه زحمة العمل، ومشاغل الحياة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾
[المنافقون:9]
يجب أن يقف مع نفسه من يوم لآخر، يراجع حساباته، وهذا يسمونه الآن ترتيب الأوراق الداخلية؛ اجلس مع نفسك نصف ساعة، أين أنا ماش؟ أين كنت؟ أ عندي مشكلة؟ أ عندي دخل حرام؟ أ عندي بالبيت مخالفة إسلامية؟ هل لي علاقات غير صحيحة؟ اعمل مراجعات، قال سيدنا عمر:
>>تعاهد قلبك.<<
هل قلبك موصول بالله،؟ هل تشعر بإخلاص لله، أم تشعر بنفاق؟ هذا الذي أتمنى أن تكون وأنا ـ والله ـ أخاطب نفسي معكم، يعني أنا ما مرة خاطبت إخواني بشيء؛ وأنا أحسن الظن بنفسي، يعني أنا تأثرت بكلمة قالها سيدنا عمر خاطب بعض أصحابه ـ عمر بن عبد العزيز ـ قال:
>>والله ما أعلم أحداً أكثر ذنوباً مني<<
هكذا قال سيدنا عمر،يعني ليس القصد أنتم وحدكم بل وأنا معكم ـ والله ـ يعني أنا أعظ نفسي وأعظكم.
و
رب العالمين